ما إن تقابلت نظراتهم دأبت ليال على تمحيص نظراته لتقرأ ما بين سطورها من مشاعر، فسحبت نفسًا عميقًا حينما وجدت فقط تعجب ودهشة من اقتحامها المفاجئ للغرفة، وقبل أن ينطق يونس بأي شيء كانت تشير له بيدها مسرعة وهي تردد:
-تعالى معايا بسرعة إلحق!
عقد ما بين حاجبيه ودهشته تتألق أكثر بين ساحة عيناه السوداء:
-اجي معاكي فين وألحق إيه؟
فضربت على رأسها وهي تصرخ بنبرة درامية:.
-أنت لسه هتسأل، إلحق الحصان، في حياة بتضيع! وذنبها هيبقى في رقبتك
وعندما وجدته متصنم مكانه يحاول استيعاب ما تقول، دخلت بسرعة لتسحبه من ذراعه نحو الخارج، فالتقط هو قميصه بسرعة ليرتديه مستجيبًا لجنونها الذي لا يعرف سببه…
ركضت ساحبة إياه نحو حظيرة الخيل، ثم أشارت قبل أن يدخلوا وقالت بأنفاس لاهثة:
-إلحقه يلا بسرعة!
فصرخ فيها يونس بارتباك لا يدري ما يحدث:
-ألحق إيه هو انا هولده! ما تنطقي يابت إنتي!
فهتفت بلهجة سريعة وهي تشير نحو الداخل:
-الحصان هرب من المكان المحبوس فيه، لازم تلحقه
لتتسع عينـا يونس بذهول قبل أن يستطرد بانفعال ونفاذ صبر:
-انتي هبلة يابت، طب ما يهرب عادي هو هربان من سجن أمن الدولة!؟
امتعضت ملامح ليال وهي تزم شفتاها كطفلة مذنبة ثم غمغمت بغيظ:
-أنت بتزعقلي ليه، طب ماهو عادي يهرب اهوه امال حابسينه ليييه ما عادي يهرب؟!
ضرب يونس على وجهه يستغفر الله بصوت خفيض قبل أن ينظر لها بغيظ وكأنه يود قتلها في التو واللحظة:
-حابسينه قدرة واقتدار يا ليال، ليكي شوق في حاجة؟
فرفعت كتفاها ببراءة تلقائية:
-لا طبعا يا باشا اللي تشوفه
توجه يونس نحو الحصان وهو يسألها متنهدًا والغيظ لازال يخضب سوداوتاه:
-وبعدين إنتي فكتيه وخرجتيه ليه اصلاً؟
فتنحنحت ليال لتجيب بهدوء وتأثر درامي مصطنع:
-ده هو اللي طلع يجري كان مكبوت يا حبة عيني الحبسة وحشة!
فسألها يونس رافعًا حاجبه الأيسر:
-يعني مش انتي اللي فكتيه وخلتيه يجري؟!
لتهز رأسها نافية ببراءة تامة:
-تؤ تؤ، هو اللي كان مكبوت وطلع يجري
منع يونس ضحكته من التسلل لأطراف ثغره والتي كادت تشقق عبوس وجهه..
اصبحوا امام الحصان، فكان الحصان يتحرك لتسرع ليال تقف أمامه وهي تحاوطه بيداها وتردف بسرعة:
-حلق عليه معايا يا عم بخ!
هذه المرة لم يستطع يونس كتم ضحكته الرجولية التي صدحت عالية، لتبتسم هي تلقائيًا، واخيرًا أشرقت شمسها المسربلة به، تشرق وقتما يُشرق هو وتُظلم وقتما يتشبث هو بظلمته وسكونه…!
فيما استدرك يونس نفسه ليقول وبقايا ضحكاته عالقة بفمه:
-طب اوعي من قدامه بس انتي..
وبالفعل ابتعدت منصاعة لكلامه، ليتوجه يونس بالحصان ليعيده لمكانه، فاتسعت حدقتاه وهو يرى الدجاج الموضوع أمامه، ليسألها بصوت مصدوم:.
-مين اللي جاب الفراخ دي هنا؟
لترد هي بشجاعة وفخر:
-انا جبتهاله حسيته هفتان شوية!
كاد يونس يُصاب بجلطة حرفيًا وستكون هي السبب الرئيسي، ليهتف بعدها بنفاذ صبر متساءلاً باستنكار:
-مين اللي قالك تجيبي الفراخ دي هنا يا ازكى اخواتك؟! الحصان مابياكلش أي لحوم، وبعدين حستيه هفتان تجيبيله فراخ، هو انتي جايه تزوري حموده ابن خالتك اللي لسه راجع من الحج؟!
فسألته ليال ببراءة وهي تعض على شفتاها:.
-هو طلع مش المفروض ياكل فراخ عشان يتغذى كويس؟!
-لأ
-يقطعني!
تمتمت بها ليال ضاحكة وهي تركض من أمامه قبل أن يفتك بها، وكذلك يونس لم يستطع منع ابتسامته التي عادت تحلق على ثغره، سيفقد عقله حتمًا إن ظل يتعامل مع تلك المجنونة، ولكن لمَ أحس أن جنونها ذاك قد راقه نوعًا ما!؟..
في القصر…
كانت أيسل جالسة في غرفتها أمام لوحتها الحبيبة، تاركة العنان لفيض افكارها لينطلق سابحًا بين بحور تلك اللوحة فيُشكلها بألوانه المشعثة…!
أنهى سكونها وعزلتها دخول مريم الغير مرغوب بتاتًا، وهذا النفور تربع على ملامحها وهي تقول ببرود:
-خير اللهم اجعله خير، متهيألي انك عارفه إن بدر مش هنا!
كانت مريم تضع يداها خلف ظهرها وهي تقترب منها ببطء وتبتسم بشيء من المكر ثم أردفت بخفوت ونعومة شابهت جلد ثعبان سام:
-لأ منا مش جايه عشان بدر، انا جايالك انتي
عقدت أيسل ما بين حاجبيها بتعجب واضح وهي تردد مستنكرة:
-جايه عشاني أنا! ليه هو في إيه بيني وبينك عشان نتكلم فيه؟
فهزت مريم رأسها نافية بنفس البساطة المُقلقة:
-لأ منا برضو مش جايه اتكلم!
-امال جايه ليه؟
برز فحيح الثعبان السام من بين حروفها وهي تخبرها بصوت غامض:
-جايه أخد حقي
حينها نهضت أيسل لتهز رأسها بعدم فهم مغمغمة بحدة:
-حق إيه يا ام حق إنتي؟ انتي مجنونة يا بت انتي؟
وبلحظة حدث كل شيء، اصبحت مريم امامها مباشرةً فجذبت رأسها بعنف لتكتم فاهها ثم وضعت قطعة القماش على فاهها لتربطها من الخلف، ثم كبلت يداها بيدها للخلف خلال محاولات أيسل المهدورة في التحرر من بين قبضتها او الصراخ لينجدها أي شخص…!
وما إن انتهت مريم حتى قالت بصوت بدا لأيسل طلسم لاستحضار شيطان ما:
-هتعرفي ازاي وانتي حتى مش فاكره ولا على بالك الغلبانة اللي دمرتي حياتها
كانت أيسل متسعة العينان، تحاول استيعاب ما تتلفظ به تلك المجنونة من تراهات!..
فيما استكملت مريم وهي تحدق بالفراغ امامها وكأن تلك الذكرى قد وجدت مكانها في عقلها المُبطن بالسواد والحقد، فاشتعلت لتزيده سوادًا وظلمة…
-مش فاكره مريم صاحبة اختك، مريم اللي كانت مع أختك ريم في نفس بيت الدعارة في اليوم اياه، مريم اللي اتصلتي بأختك ساعتها وخلتيها تنزل بسرعة من غير ما تقول لحد عشان عرفتي من البواب إن البوليس جاي! مريم اللي ماخلتيش أختك تروح تشهد إنها كانت معايا وإننا مكناش نعرف إنه بيت دعارة، مريم اللي إتحبست بسبب انانيتك ٣ سنين ظلم، مريم اللي اتشوهت في السجن وبرضو السبب الرئيسي إنتي!
كانت أيسل مذهولة، تحاول إلتقاط أنفاسها وإستيعاب أي شيء من هذا الحقد، ذلك الحقد الذي تراكم وتراكم في جوف مريم ثم ودون مقدمات هطل على أيسل من كل جانب حتى لم تعد قادرة على إلتقاط أنفاسها وسط ذلك الفيضان الضاري من الحقد…!
فهزت مريم رأسها بعنف ساحبة إياها للخلف وهي تتشدق بغضب مجنون:
-إتصدمتي ليه؟! كنتي متخيلة إني هنسى إنك كنتي السبب في كل اللي حصلي؟
حينها بدأت أيسل تهز رأسها نافية تحاول النطق، صحيح أنها فعلت هذا ولكن ابدًا لم يكن بدافع الحقد او عن دراية، بل لم تكن تعلم ابدًا بوجود تلك الفتاه في ذلك اليوم، اعتقدت أن أختها ريم تتسكع كالعادة مع اصدقاء السوء الذين ولابد أنهم يعلمون أن ذلك المكان كان للدعارة ..
ولم يكن من الذكاء أن تجعل ريم تشهد في قضية دعارة فتُصاب سُمعتها بصك السوء الذي لن يُزال ابدًا…!
ربما فعلت ذلك بدافع الأنانية نعم تعترف، ولكن ريم كانت الأخت والصديقة الوحيدة التي عرفتها طوال حياتها، لم تكن تعلم أن تلك الرغبة في الحفاظ على أختها ستكون اليد التي تدفع شخص اخر نحو هاوية اللاعودة…
بل لم تكن تتخيل أن احدهم لديه تلك القدرة على إحياء وحش الحقد داخله كل تلك الفترة دون أن تقتله مخالبه..!
دفعتها مريم بعنف للخلف حتى سقطت أيسل متمددة على الأريكة، ثم وقفت على رأسها لتخرج تلك الزجاجة الصغيرة من يدها وهي تستطرد بابتسامة مضطربة:
-دلوقتي هعمل فيكي نفس اللي حصل فيا بس باختلاف الطريقة، هشوهك!
فهبت أيسل بفزع تمسك يدها الممسكة بتلك الزجاجة قبل أن تلقيها على وجهها، كانت تصارع حقد مريم حرفيًا، فقوة مريم كامنة في ذلك الحقد الذي أصبح كالسم مدسوس بين عروقها..!
وأثناء هز أيسل الهيستيري لرأسها في مواجهة مريم، حُلت عقدة الرباط فعفى عنها وإنفك تمامًا ليسقط من على فم أيسل حينها صرخت أيسل وبأعلى صوت ظنت أنها تمتلكه:
-يا بــــــدررر
لا تدري حتى لمَ صرخت بأسمه هو تحديدًا ولم تفكر، هي فقط أطلقت سراح تلك الصرخة المتحشرجة في جوفها وتلك الحروف كانت مرسال من قلبها بالفزع والذعر لقلب بدر الذي لم يتأخر في تلبية النداء وخلال دقائق معدودة كانت يقتحم الغرفة…
فصرخت أيسل من وسط بكائها:
-إلحقني يا بدر
ركض بدر دون أن يفكر مرتان ناحية مريم صارخًا بذهول لم يستطع كتمه:
-إنتي بتعملي إيه يا مريم إنتي إتجننتي!
لم تبدو مريم طبيعية ابدًا وهي تتجاهل محاولات بدر لإبعادها، وقولها لأيسل وهي تضحك بشر غريب:
-انتي مفكراه هيلحقك! محدش هيلحقك ابدًا وحقي هاخده يعني هاخده.
أثناء الشد والجذب ما بين ثلاثتهم سقط بعض من مياه النار من تلك الزجاجة على يد أيسل التي صرخت بألم رهيب وهي تمسك بيدها، في نفس اللحظات التي نجح بها بدر في رمي تلك الزجاجة بعيدًا عنهم ثم كبل مريم بقوة ليبعدها عن أيسل وهو يزمجر في مريم بعروق بارزة:
-اهدي بقا وبطلي جنان، إنتي خلاص عقلك شت مابقتيش مدركة انتي بتعملي إيه؟
فهزت مريم رأسها نافية وبدت وهي تتابع حديثها وكأن كل شياطين الدنيا نفثت بها في تلك اللحظات..!
-كفاية تمثيل يا بدر بقا انا عرفتها كل حاجة، يلا ساعدني عشان هاخد حقي دلوقتي!
-اسكتي واتحركي قدامي
قالها بدر وقد كز على أسنانه بغيظ والغضب يتضخم داخله اكثر لا يتخيل ما كان سيحدث لو تأخر عدة دقائق اخرى…
فجذب بدر مريم نحو الخارج وهو يردف بعنف:
-يلا تعالي، احنا هنمشي من القصر ده انهارده اصلاً.
فهدرت فيه مريم بعضب هيستيري وهي تنفض يدها بعيدًا عنه:
-انا مش ماشيه من هنا قبل ما اخد حقي منها
حينها تدخلت أيسل مزمجرة فيها بعصبية هوجاء وقد تفجرت عروقها من كثرة ضغط الألم او الغضب:
-اخرسي يا مريضة، انا مليش علاقة باللي رسمه عقلك المريض انا كل اللي عملته إني لحقت أختي ولحقت سمعتها اللي كانت ممكن تتدمر لو راحت شهدت في قضية اداب ويمكن كانت اتحبست!
تنفس بدر بصوت مسموع وهو يحدق بـ أيسل، فـ تقريبًا أيسل خلال تلك اللحظات قطعت تلك الحبال التي تكبل قلبه الذي اصبح مُتيم بعشقها دون أن يدري حتى…!
فيما ألقت مريم بنظراتها تجاه بدر وسألته بنبرة حادة:
-أنت هتساعدني ولا لأ يا بدر قبل ما حد يجي؟
فاقترب بدر من أيسل الواقعة ارضًا حتى تهيأ لها للحظات أنه سيطيع تلك الحربائة، لكن وفي اللحظة الاخيرة سألها بخفوت وهو يمسك يدها متفحصًا إياها:
-إنتي كويسة؟
اومأت أيسل مؤكدة برأسها، حينها تدخلت مريم لتصرخ حارقة اخر الكروت التي تمتلكها:
-انتي مفكراه حبك زي ما انتي هتموتي عليه! كل حاجة حصلت كانت عشان يساعدني أنتقم، هو جه اشتغل هنا اصلاً واتجوزك عشان ينتقم منك وأكيد هو لسه بيكمل التمثيلية دلوقتي بس انا بقا زهقت من التمثيلية دي ومش هكمل وهاخد حقي!
بهتت ملامح أيسل بشحوب، وقد تفجرت تلك الحقيقة التي كانت متوارية خلف حروفهم منذ ثوان ولم تحاول أيسل إظهارها، ولكن حينما تفجرت فجأة نصب عيناها تفتت قلب أيسل ليصبح مجرد شظايا صغيرة مُدمَرة…!
عودة للقرية في صعيد مصر…
جلست ليال في الحديقة ممسكة بصورة والدتها الحبيبة ودموعها تنهمر على وجنتاها كالأمطار في ليلة شتوية قاسية وهي تتذكر احدى الذكريات التي لا تود تذكرها ابدا…
كانت في العاشرة من عمرها، ذات يوم حينما خرجت من غرفتها على صوت صراخ والدتها المتألم وهي تبكي ووالدها قد تسلط عليها بعنفه وقسوته المعتادة، فكان يضربها وهو يزمجر فيها بجنون:
-برضو مانسيتيهوش! اه هتنسيه ازاي ماهو حبيب القلب
فبكت والدتها أكثر وهي تهز رأسها نافية:.
-حرام عليك انا متقية الله من يوم ما اتجوزتك وعمري ما جبت سيرته وحافظه عرضك ومتقية الله فيك وفي بنتي، أنت اللي مش قادر تنسى إني كنت بحبه وبتبرر خيانتك بده!
فرفع يده ليضربها أكثر وهو يهب منفجرًا ما كان يخبئه:
-أيوه مش قادر أنسى ومش هنسى، مش هنسى إنك حاولتي تهربي مني يوم الفرح بسببه ومش هنسى إنك كنتي رافضاني دايمًا بسببه ومش هنسى إنك كنتي بتاخدي حبوب منع الحمل عشان متخلفيش مني وبرضو بسببه!
صرخت زينب فيه وهي تنفي التهم الثقيلة التي يرميها على كاهلها:
-لأ مش بسببه، بسبب قسوة قلبك اللي مش قادر تخلص منها، وبسبب الحقد اللي بيكبر جواك يوم عن يوم وبسبب انك خاين!
فتابع ضربها بعشوائية وهو يهدر بصوت متجبر:
-اخرسي، انا الراجل انا اعمل اللي انا عاوزه ومش من حقك تحاسبيني!
حينها ركضت ليال نحو والدتها وهي تدفع قدم والدها بعيدًا عنها صارخة بغضب طفولي:
-سيب ماما ابعد عنها ماتضربهاش.
فدفع ليال بعنف بعيدًا غير آبه بكونها طفلة، ثم غمغم بازدراء:
-غوري من وشي ما انتي شبهها!
وكالعادة حينما يفرغ غضبه بها وبوالدتها يغادر دون أن يفكر في الاعتذار لها يومًا…
بينما زينب تبكي وهي تحتضن ليال وتنوح بصوت متهدج من الألم الذي ينضح منها:
-اااه، ياريتني ما استسلمت واتجوزته، ياريتني ما بعدت عن الشخص الوحيد اللي حبيته، ياريتني ما استسلمت لقدري..
يا ليت ويا ليت ويا ليت، دائمًا كانت تنوح زينب بتلك الكلمات ندمًا، ولم تنتبه لكونها تزرع تلك الكلمات زرعًا داخل طفلتها ليال، توشم روحها بعدم الاستسلام ابدًا وإلا ستصبح العاقبة وخيمة جدا…
حتى أصبح السيناريو يتردد داخل عقل ليال كلما اوشكت على الاستسلام، فكلما فكرت في لعنة الاستسلام ذكرت نفسها أنها يجب أن تحارب حتى تهرب من مصير مؤسف اسود ربما يكون مصيرها كما حدث مع والدتها…!
عادت من ذكرياتها تمسح دموعها المنهمرة وهي تحاول اخذ نفسًا عميقًا وإنتشال نفسها من بين براثن الذكريات…
بعد فترة…
اقتربت ليال ممسكة بكوب القهوة في يدها وتوجهت نحو قاسم الذي كان جالس امام الشرفة في انتظار قهوته، وما إن اصبحت امامه حتى هتفت بصوت رائق وابتسامة حلوة تخفي خلفها دموع عالقة برموشها:
-صباح الأناناس على أحلى وأغلى الناس، يعني حمايا البرنس قاسم باشا وبس
فضحك قاسم وهو يشير لها بيده:
-خلاص يابت يا لمضه انتي، هو انتي بتقدميني للانتخابات!
ضحكت ليال هي الاخرى وهي تجلس جواره متمتمة له بهدوء والابتسامة لازالت محافظة على مساحتها اعلى ثغرها:
-انا غلطانه برفع من معدنياتك
ثم مدت القهوة له وتابعت:
-اتفضل ياسيدي قهوتك اهيه، قولت اجبهالك وبالمرة اقعد معاك شوية عقبال ما هتلر ابنك يخلص مع السباك فوق
ابتسم قاسم في حنو ثم اقترب منها بمقعده ليمسك يدها بين كفاه المجعدان ثم ربت عليهما بحنان الأب الذي لطالما افتقدته ليال:.
-أنا عارف إن يونس لسه معاملته ناشفة معاكي شوية، هو محتاج منك شوية صبر بس وصدقيني لو قدرتي تخليه يحبك هتشوفي يونس تاني خالص، ولعلمك انا مستني بس اول ما ينسى البت الملونه بتاعته دي وساعتها انا اللي هربيهولك، انتي جوهرة يا ليال ولازم يعرف قيمتك كويس اوي قبل ما تبدأوا حياتكم سوا بس لازم نلعبها صح!
للحظات شعرت ليال بتلك النغزة المؤلمة تستيقظ من غفوة المرح والسكون، ولكنها سرعان ما أطاحت بها أرضًا مرة اخرى وهي تبتسم مقتربة منه وتردد مشاكسة اياه:
-والنبي انت قمر وهصبر عشانك، بقولك ايه ما تتجوزني أنت؟
تعالت ضحكات قاسم على تلك الشقية التي للأسف لم يعطي يونس لنفسه الفرصة لها لتتسرب لأقفال قلبه فتفتحها جميعها رويدًا رويدًا ولكنه سيحرص على أن يحدث…!
فاستعاد قاسم اتزانه وهو يخبرها في هدوء مبتسمًا:
-طب يلا يابت يا شقية انتي اطلعي لجوزك زمانه خلص مع السباك ومحتاج ياخد دوش وحد يجهزله هدومه وفطار عشان يروح شغله
اومأت ليال برأسها بسرعة وهي تقف مقتربة برأسها منه قليلاً:
-انت تؤمر يا قمر…
وبالفعل صعدت ليال متوجهة لغرفتهم لتجد السباك يغادر مع معداته فابتسمت له وهي تقول ملوحة بيدها:
-مع السلامة يا عم محمود تعبناك معلش!
ليبادلها ذلك الرجل المسن الابتسامة الصافية ثم غادر وهو يلقي التحية على يونس الذي بمجرد مغادرته اقترب من ليال ليمسك ملابسها م عند مؤخرة رأسها مغمغمًا باستنكار وهو يقلدها:.
-مع السلامة يا عم محمود تعبناك! هو انتي داخله القهوة ياختي وبتردي السلام على الزباين ولا إيه! مفيش اي احترام لوجودي؟!
فهزت ليال رأسها بسرعة وببراءة أجابت:
-لا طبعًا ليه بتقول كده، ده عمو غلبان وطيب والله وانا زي بنته!
رمقها يونس بنظرات غاضبة من أعلاها لأسفلها ثم تركها، لتسارع هي القول متابعة:
-طب أقولك حاجة بمناسبة سيرة عم محمود؟
فسألها يونس بهدوء متنهدًا:
-حاجة إيه؟
فهتفت ليال بجدية مُضحكة خالطتها الفكاهه:
-بمناسبة الكورونا اللي انتشرت في الصين وكده، اللي عنده الانفلوانزا لن يُصاب بكورونا، المصدر: عم محمود السباك قالي مفيش فايروس بيخش على شغل التاني!
ضحك يونس هذه المرة من قلبه ولم يحاول كتم ضحكاته لتشاركه ليال الضحك وهي تتذكر ذلك العجوز اللطيف الذي أحبته بصدق…!
ثم سرعان ما ثبتت نظرات يونس السوداء العميقة التي تعيث الفوضى داخلها على ليال واقترب منها ببطء لتعود هي للخلف، وقعت نظراتها على أزرار قميصه المفتوح أولها منذ موقف الحصان، فابتلعت ريقها وهي ترى يونس يقترب اكثر ثم همست بصوت مبحوح:
-أنت بتقرب كده ليه! شكلك ناوي تغرغر بيا!
فرفع يونس حاجبه الأيسر ورد باستنكار:
-آآ إيه يا عنيا؟ أغرغر بيكي إنتي؟ ليه إتصيت في نظري؟!
اقترب يونس حتى لم يعد يفصلهما شيء، اقترب من اذنها حتى شعرت ليال بأنفاسه الساخنة على جانب وجهها فأصابتها تلك الرعشة المصحوبة بمشاعر لاهبة داخلها، طارت كلها مهب الريح حينما همس يونس عند اذنها بصوت أجش:
-في فار وراكي بيتمشي شوية بس اوعي تصرخـ…
ولم يستطع إكمال جملته فصرخت ليال بفزع دون مقدمات وهي تتعلق برقبته كالأطفال وتصرخ وهي تحاول رفع قدمها عن الارض والنظر خلفها:
-هو فييين، مشييييه خليه يمشيييي قوله يمشي بسرعة
حاول يونس فك ذراعها الذي كبل رقبته حرفيًا وهو يصيح فيها بحنق:
-انتي هبلة! أقوله يمشي إيه هو انا بقولك جايب واحد صحبي وهدخله اوضة النوم عليكي، ده فار!
كادت ليال تبكي كالأطفال ولازالت متعلقة بأحضانه ترفض الابتعاد:.
-والنبي مشيييه مش عايزه أشوفه انا بترعب منهم.
إلتصاقها به بتلك الطريقة وتشبثها بأحضانه جعلا ثورة من نوع اخر كان يكتمها بشق الأنفس تندلع بين ضلوعه، فابتلع ريقه بتوتر يحاول قمع تلك الثورة من العاطفة الحارقة بإدخال العقل وهو يُذكر نفسه أنها غريزته الذكورية فقط، وأنه قرر التقرب منها حتى تسنح له الفرصة لمعرفة ما تخبأه عنه او معرفة مكان ذلك اللعين جمال حتى ولم تكن توجد طريقة غير هذه، او ربما هو اقنع نفسه بذلك..!
ثم قال بخشونة وقد حملت نبرته بحة خاصة تلحنت تحت ظلال تلك العاطفة التي تأججت دون ارادته:
-هو اصلاً مشي بسبب صريخ حضرتك اللي زمانه اتفزع منه، ممكن تبعدي بقا وتسيبي رقبتي!
ألقت ليال نظرة خاطفة للخلف حتى تتأكد من صدق كلامه ثم تركته على مضض مطأطأة رأسها ارضًا بحرج فيما إلتقط هو أنفاسه المسلوبة…
شعر يونس بلهاث الغضب يطغي على أنفاسه حتى كتمها، الغضب من تلك العواطف التي تداهمه فجأة في قرب تلك الليال…
فسار نحو دولابه وهو يُخرج ملابسه وتابع بصوت أجش وقد تنحت تلك المشاعر جانبًا:
-اطلعي برا يا ليال
عقدت ليال ما بين حاجبيه بتأسف وصوت خافت:
-سوري لو ضايقتك بصريخي بس آآ…
فأكمل يونس بصوت اكثر حدة:
-اطلعي برا يا ليال.
وبالفعل خرجت ليال وهي تتنهد بضيق من تغيراته المفاجئة، ولكن حاولت ألا تعكر فرحتها بالتغيير الواضح نسبيًا بينهما هذا اليوم…!
بينما في الداخل ضرب يونس الدولاب بعنف وغيظ، يود لو يسيطر العقل على كافة مشاعره الرجولية، ولكن يجدها تنساب من بين قبضة تحكمه في قربها، وما يثير حنقه أنها حتى لا تتعمد إثارة أي مشاعر رجولية فيه!
في يوم آخر…
كانت ليال تجوب غرفتها ذهابًا وإيابًا وهي ممسكة بهاتفها تحاول الاتصال، واخيرًا أجاب الطرف الاخر بنبرة غليظة:
-نعم بتتصلي ليه؟!
-انتي مابترديش عليا ليه حضرتك؟ بقالي كام يوم بحاول اتصل
فقالت ببرود:
-مش فضيالك
لتهتف ليال بغيظ واضح:
-مش فضيالي! امال حضرتك فاضيه بس تقولي لابويا على العنوان اللي انا فيه؟
-نعم! أقول لأبوكي بتاع إيه هو انا فضيالك انتي او ابوكي
عقدت ليال ما بين حاجبيها بعدم فهم:.
-يعني مش انتي اللي ادتيه عنواني امال مين؟! محدش يعرف إني اتجوزت يونس ويعرف عنواني إلا انتي لما اتفقنا
-معرفش، حلي مشاكلك بعيد عني ومتتصليش بيا تاني
فأردفت ليال من بين أسنانها والغيظ يتدفق من حروفها:
-لو طلعتي أنتي اللي قولتي لبابا صدقيني هعرف يونس كل حاجة وتخيلي بقا هيعمل إيه لما يعرف إن حماته المصون هي اللي زقتني عليه عشان أبعده عن بنتها!
اهتاجت فرائص الاخرى وهي تخبرها بتهديد مُبطن:.
-ومتنسيش أنا قولتلك إيه لما اتفقنا، لو يونس عرف اي حاجة صدقيني مش هتشوفي وش باباكي تاني.
لم تعلم ليال بمَن كان يقف خلف ذلك الباب يستمع لها والصدمة تتشبع عيناه السوداء و…